Following

Table of Contents

Chapter 1

In the world of Noctyra

Visit Noctyra

Ongoing 587 Words

Chapter 1

9 0 0

 

نخطو.. نخطو.. نخطو...

ولا نهاية للطريق،

ظلالٌ كالوحوش تُراقبنا،

وصدى الخطى يُجيب:

"خوف... خوف... خوف..."

 

في الوحل نجرّ أقدامنا،

نخوض بعالمٍ مكسور،

حطام مدنٍ، ورجالٍ كانوا،

والآن أطيافٌ تدور:

"ظلام... ظلام... ظلام..."

 

لا أفق، لا وعودٌ بالنجاة،

لا راحة للروح أو للعظم،

فقط نيرانُ عيونٍ في الخراب،

تلتهم جلد الزمن الهَشّ:

"صمت... صمت... صمت..."

 

بين كل رفة عينٍ وجثة،

بين كل نداء استغاثةٍ يضيع،

يتخثّر الدمُ في حناجرنا،

ونحن نسير في صفٍ بطيء:

"برد... برد... برد..."

 

لا دفء، لا راحة، لا أمان،

الريح تعوي ككلبٍ جائعٍ،

والسماء بلا نجومٍ، بلا غدٍ،

خطانا تنحت الرعب في الأرض:

"موت... موت... موت..."

 

نخطو.. نخطو.. ولا نحسب المسافة،

إلى متى؟ سؤالٌ أحمقُ في الخراب،

كل نفسٍ حادة كحد السيف،

وكل خطوةٍ كطعنة في القلب:

"ليلٌ... ليلٌ... ليلٌ..."

 

لا ضوء، لا ظلٌ سوى الشك،

نهيم في الفراغ كجرحٍ نازف،

ونحن مجرّد أشباحٍ تطحنها الخطى،

خطى بلا مأوى ولا سلام:

"خوف... خوف... خوف..."





 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المقدمة

أنا المرآة المعلقة فوق الحوض، شاهدة صامتة مكسوة بطبقات من الغبار والأوساخ وبقع الماء القديمة التي تشبه دموعاً متحجرة ، أراه الآن... انعكاس جزئي لجسد ملقى على البلاط البارد. كتفاه ترتجفان بعنف، كموجات في بحيرة مضطربة. صوت نحيبه يختلط بصوت الماء المتدفق من الصنبور المفتوح - ثنائية غريبة بين ماء الحياة ودموع الموت. لا أستطيع رؤية وجهه من هذه الزاوية، فقط ظهره المنحني وتيشيرته الأبيض الذي يتحول تدريجياً إلى كفن مبلل.فجأة، يرفع رأسه. عيناه تلتقيان بسطحي الضبابي. أرى ملامحه المشوشة - شاب في منتصف العشرينات، لكن عينيه تحملان عمر قرون. محمرتان كأنهما رأتا نهاية العالم. يحدق فيّ كأنه يبحث عن دليل على أنه ما زال حياً. لكن كل ما أعكسه له هو صورة شبح يرتدي جلد إنسان. في سطحي المتسخ، أرى أكثر مما يرى. أرى الظلال تتحرك خلفه - ظلال لأشياء لم تعد موجودة، أو ربما لأشياء لم تولد بعد. أرى في عينيه انعكاس مدينة تحترق ببطء، حيث الموت لم يعد نهاية والحياة لم تعد بداية. ينهار مجدداً. يسقط على ركبتيه كدمية قُطعت خيوطها. يديه تضربان البلاط بإيقاع جنائزي. الماء لا يزال يتدفق، يرش قطرات على سطحي كأنه يحاول محو الصورة المرعبة التي أحملها. يقف. وجهه أمامي مرة أخرى. هذه المرة أقرب، قريب بما يكفي لأرى الشقوق في روحه. شفتاه ترتجفان بكلمات لم تُنطق بعد - ربما صلاة، ربما لعنة. يمد يده نحوي، أصابعه ترتعش على بُعد ملليمترات من سطحي. أكاد أشعر بحرارة يده، لكنه يتراجع. يخاف أن يلمس الحقيقة. يبدأ بالتحرك. خطوات متقطعة، مضطربة، كأنه يتعلم المشي من جديد في عالم فقد قوانينه. في كل مرة يمر أمامي، أرى وجهاً مختلفاً - الغضب يذوب في اليأس، اليأس يتحول إلى رعب، والرعب يتلاشى في فراغ مطلقيتوقف. ينظر إليّ مرة أخيرة. عيناه الآن مرآتان فارغتان تعكسان العدم. أرى فيهما نفسي - مرآة تنظر في مرآة، لانهائية من الفراغ المتكرر. يدير ظهره ويتجه نحو الباب، وأنا أعلم أنني لن أراه مجدداً. ليس هذا الشخص على الأقل. ألمح انعكاسه الأخير وهو يغادر - ليس مجرد ظل يتلاشى، بل بقايا إنسان يتفكك ذرة تلو الأخرى. الغرفة فارغة الآن. فقط أنا والصنبور المفتوح الذي يبكي ماءً بدلاً من الدموع. لكن هناك شيء آخر... أشعر بحضور. صوت أنفاس ثقيلة، متقطعة، تتردد في الفراغ. ربما هو صدى روحه التي تركها خلفه. أو ربما شيء آخر ينتظر دوره ليقف أمامي. أنتظر. أشاهد. أعكس الفراغ الذي أصبح الآن أثقل من الوجود نفسه.
ضربةٌ أخرى. جرسُ الخشب يئن ويتشظى. الباب فصل نفسه من مفاصله واندلق على الفتحة كفم مفتوح فجأة. الهواء دخل حاداً. رائحة حديد. رائحة تراب قديم. ورأيته يمشي داخل الإطار كمن يمشي عبر شريط فيلم ممزق. قدماه مقيدتان. أغلالٌ صغيرة تلمع عند كاحليه كدوائر من فرسٍ صغير. كل خطوة تترك خطاً قصيراً في الغبار. خطواته ليست خطوات، بل إيقاعات متقطعة، كقلبٍ يعمل على قوةٍ منخفضة. شعرٌ أبيض هنا وهناك كسحابة دخان مركزة حول جبينه. شابه الزمنُ أكثر مما تسمح سنواته. توقف على حافة الممر. نظره تائه بين الداخل والنافذة. كان يتأرجح. عيناه حمرتان، لكن نظراته بلا مبرر واضح. لم ينظر إليّ حقاً. راهنَ على شيءٍ أبعد مني. لسانه يلعق شفتيه بصمت. أصابعه تبحث عن شيءٍ في الهواء ثم تعيد تشبثها بالهواء الفارغ. عبّد الخوفُ طريقه. كان عبد الخوف قبل أن يكون عبد القيود. الخوف، كحبل مرن، أمسك بحبل التنفس. عندما حاول أن يخطو، خشيتُ على البلاط من صدور أنفاسه. بدا أن الموت قد تعلّم المشي على قدميه قبله. لم أستطع تشخيص الفرق بين من مات وهو يمشي ومن من يمشي لينقلب ميتاً لاحقاً. اقترب. رائحة كبريت وشيء مالح على ذقنه. بقعةٌ حمراء لامعة على كمّه. نظر إلى الأرض حيث الحروف محفورة. لم تزلَّ حواف الحروف حادة. ثم رفع وجهه فجأة مباشرة نحوي. هذه المرة التقت عيناه بسطحي دون حاجز. رأيتُ في عينيه مرآةً منتهية. رأيتُ قلماً يخطُّ كلمةً بلا حركة. رأيتُ نفسه ينحني إلى الداخل. همس بكلمةٍ لا أستوعبها إلا كاهتزاز: اسمي. لم يعلنها للهواء. أعلنها للصمت. ثم التفت كما لو أنه يسمع نبضاً خلف الجدران. كأن هناك صوتاً آخر يبكي باسمه. مدّ يده. أخيراً لامس القماش المغطى بالغبار بثوبٍ قديم. أصابعه اقتربت من المرآة. اهتز السطح. لمسته لم تزل صورته فقط. لمسته بدأت تبلل الزجاج من الجهة الأخرى. قطرات صغيرة سبحت عكس الجاذبية وكأن شيئاً خلفي أيضاً يبكي. تذبذب كيانٌ خلفه. ظلٌّ ثالث انفصل عن ظله المعروف. كان أبطأ. كان أكثر ثخانة. بدا كأنه يحاول أن يختار أي من الاثنين سيبقى. الرجل وقف، وعند قدميه تفتحت الأحرف في الإسمنت كما لو أنها تتنفس. قرأتها عيناه ببطء ثم ابتسم ابتسامة صغيرة بلا سخرية. ابتسامة من يعرف النهاية لكنه مصرّ أن يمشيها ثانية. سحب قدمه المتقيّدة بجهد، وكأن كل حلقة من الحديد تحتاج إذناً لتُفلت. ثم سار. ليس باتجاه الشارع. ليس نحو الحشود. سار إلى داخل البيت، إلى حيث الصنبور لا يزال يبكي. دخل الحمام. أغلق الباب بهدوء. الصوت تنحسر. الطلقات في الشارع صارختها تتلاشىلكنها لم تختفِ. بقيتُ أنعكس. سطحٌ قديم يراقب حركةٍ جديدة. بقى سؤال معلّق في الهواء مثل حبلٍ غير منسوج: هل يموت الآن لأن يموت أم لأنه يموت دوماً؟ السماء خارج النافذة لم تزل برتقالية. الطيور توقفت عن إفلات صوتها. وفي الداخل، خلف بابٍ رطب، كان شيءٌ ما يُعيد ترتيب أسماءنا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

الظلام حالك. الصمت صامت. الأغلال تطرق كأنها تعدّ ثواني البيت. صريف أسنان يُحكّم الليل. صرخة عالية تتقطّع في الممر ثم تخفت. دفعتُ اللوح الخشبي، ورفعت ضوء الـLED. الضوء سكين رفيع يشقّ الهواء. أراها. عينان غائرتان يستديران نحو مصدر الاسم. بشرة شحبت حتى صارت كالورق القديم. المسامير تمسك بمعصميها إلى الحائط كأزرارٍ أُغلِقت على عجل. عندما رأتني، انكسرت كتفُها بالبكاء ونادتني. قالت إنها خائفة. إنها تشتاق إليّ وإلى أختي وإلى أبي. صوتها جاء من مكان أعمق من صدرها. دخلت. تيشيرتي الأبيض يلتصق بجلدي. من الأسفل ملابس داخلية. الرائحة حارّة، كجرحٍ لم يُنظَّف. رفعت ما بيدي. لم أنتظر الكلمات. أنهيت الأمر بضربة واحدة. ثم ثانية حاسمة كي لا يعود الألم. لا حاجة للصور. يكفي الصمت بعدها ليشرح. ركعت. نزعت النظّارات الشمسية. ضممتها. البكاء خرج كما يخرج الملح من البحر. لا يتوقف. قلت لها: أرجوكِ يا أميهذه المرة. هذه فقط. دعينا ننهي الطريق هنا. شعرت بشيءٍ غريب على جلدي. الأثر الذي لطّخ صدري بدأ يضمحلّ كأنه بخار يصعد. التيشيرت بقي مبتلّاً، بارداً، يلتقط نفَسي ويردّه ، فتحت عيني ابتعدتُ عنها نصف خطوة. قلبي متوتر. الشدّ في صدري يمتد مثل حبل رفيع يُشرَّح الهواء. نظرتُ إلى رأسها. الفجوة عتمةٌ ساكنة، عينان مفتوحتان على آخرهما كنافذتين تُطلّان على لا شيء. دفعتهما جفناهُما أن يظلا يقظين أكثر مني. دفعتها إلى الحائط برفقٍ قاسٍ. سكنت. الضوء في يدي يرسم هالةً باهتة حول كتفيها. أغلقتُ الباب قليلاً. تركتُ شقّاً يكفي لصوت الممر. الأغلال هناك تواصل عدّ ثواني البيت. فتحتُ الخزانة القديمة. صريرُها شقَّ الصمت من القاع. رائحة خشب ناشف وغبار قديم. مددتُ يدي إلى رفٍّ عُلوي. لمستُ قماشاً نسي نفسه. سحبتُ فستاناً نظيفاً بما يكفي لهذه الليلة. عدتُ إليها. نزعتُ المسامير من معصميها واحداً واحداً. صدورٌ معدنيٌّ قصير. جلدٌ بارد يتحرك قليلاً مع كل سحب. ألبستُها ببطء. أغلقتُ الأزرار المفقودة بإبهامي كما لو كنتُ أرتّب تنفّسها. قميصها الممزق صار على الأرض مثل جلدٍ قديم تخلّى عنه الحيوان. لاحظتُ يدَها ترتعش. رعشة دقيقة، لكنّها تمسك الحائط من الداخل. لم أدعها تكبر. أخذتُ مسامير أخرى. وضعتُ المعصم على البقعة نفسها. دققتُ. ثلاث ضربات قصيرة. معدنٌ في حجر. استقرّت اليد. عاد الصمت إلى حجمه الأول. ارتديتُ ثيابي في الظلال. التيشيرت البليل التصق بظهري ثم بدأ يبرد أكثر. نظرتُ إلى عينيها الثابتتين. الضوء يلمع في البؤبؤ كحرفٍ لم يُكتب بعد. قلتُ لها وأنا أمسك بالمقبض: خرجت. لن أتأخر.” قلتها للباب أكثر مما قلتها لها. الشوارع حالكة. لا صوت إلا تنفّسي. صدري يمتدّ بالهواء فيختنق، أزفره فيختنق ثانية. الضوء في يدي سكينٌ أبيض نحيل. الريح تضرب الأشجار المورّقة، وتصدر ذلك الطنين الذي يذيب العظام ببطء. الشارع أربع مئة متر، لكن في عينِي صار أربع مئة كيلومتر. حدقتي تتنقّلان يميناً ويساراً، إلى فوق وإلى أسفل، كأنّ السماء والأرض بابان متقابلان يمكن لأيّ منهما أن ينفتح فجأة. وصلت نهاية الشارع. على يميني منزل كبير، عنده كُشك صغير. وقفت أمامه. قبل أن ألمس المقبض رأيتُه غير محكم. هناك أحد بالداخل. الهواء الذي دخل صدري استقرّ في رأسي بدل رئتي. الدم تجمّد للحظة، التنفّس سريع، والهواء لا يصل. كفّي ارتجفت. دفعت الباب بخفّة متناهية. حديقة واسعة تُفتح كفمٍ أخضر بعد القيح. خطوتُ. العشب مبتلّ. وجدتُ أن مزرعتي خُرّبت تماماً؛ مساطب مقلوبة، خيوط ريّ مقطوعة، جذوع نخيل منزوعة اللحاء كعظامٍ سوداء. وبين النخيل عيون بيضاء، نقاطٌ في الفراغ تحدّق بلا جفن. شددت قبضتي على مطرقة الهدم. الصوت الذي خرج من مفاصلي كان عالياً كقفلٍ يُغلق من الداخل.

قال الصوت من الظل: “أيها الدجّال.”

انتظرتُ أن يتحرّك. أن يلمس الهواء. أن يخطئ. شيء ما في رأسي يغطّ في نعاسٍ ثقيل. الأرض تدور دوائر صغيرة حول كاحلي. لا أعرف لماذا بدا الأمر فجأة مضحكاً. وجهي لا يتوقّف عن الابتسام. ابتسامةٌ مشدودة كالتشنّج. الصداع يطبق على جبيني، ومع الألم تصبح الأشياء واضحة، واضحة أكثر ممّا يجب. الغضب يشتعل في جسدي مثل فتيلٍ لاهث.لم أرد. المفاصل على الخشب صارت بيضاء. بيننا فقط رائحة نباتات مبتلّة. خرج من جحر الظل. لِحية كثيفة. جسد ضخم عارٍ يبرق بالندى القديم. رفع يده وقال بصوتٍ مريض: “الربّ يتشكّل في عدّة أشكال، وأنا شكل الربّ الجديد—” انكسرت جملته بصرخته. نظر إلى قدمه. ثلاثة مسامير تخترق اللحم إلى التربة. لم يرَ متى هبطت يدي ولا كيف. كان يرى فقط الحديد وقد صار جزءاً من الأرض وجزءاً منه. حاول أن يرفع رسغه. الخشب في قبضتي سبق دماغه. قبل أن يرفع رأسه نحوي هوت المطرقة. ضربةٌ أولى كسرت الصمت. الثانية فتحت للدم طريقاً كعينٍ إلى الخارج. الثالثة أطفأت العظم. كنت أشدّ على أسناني حتى سمعتُ صريرها. ضربتُ حتى صار الرأس شيئاً آخر، حتى صار الصوت مجرد بخّاتٍ رطبة على التراب. صدري يرتفع. الابتسامة لا تسقط عن فمي. قلت له على فمٍ متصلّب: “أيّها الرب، أنت عارٍ.” أخرجت من جيبي مسامير صدئة. غرستها في كتفيه، في فخذيه، عند المفصل حيث يلتقي اللحم بالأرض. كل ضربة ثلاث نقرات قصيرة. الثبات حرفة. ثم جررت حجراً كبيراً من جانب الساقية. ثقيل. يداي ترتجفان، لكن الحجر تحرّك. وضعته على صدره. اهتزّ صدره تحته اهتزازاً ضئيلاً، كأنّه يحاول مفاوضة الوزن. ثبتُّ الحجر بمسمارين على جانبيه في التربة. ظلّت رجفته ضعيفة، ثم صارت نفَساً عريضاً تحت صمتٍ أعرض. سكتت الحديقة. الريح تغيّرت حدّتها. الأشجار تفرّق أوراقها كأنها تخلّص نفسها من عينين لا تنامان. العيون البيضاء في العتمة انسحبت أو ذابت أو عادت إلى أوراقها. رائحة النباتات المبتلّة صارت أقرب إلى رائحة معدنية محايدة. مسحتُ المطرقة على العشب ، وأعدت تلقين مسدس المسامير خاصتي دماؤه تبخّرت من العشب ومن ثيابي كما لو أن الأرض لفظتها. أخذتُ نفساً عميقاً. نفضتُ التراب عن التيشيرت المبتلّ. مررتُ بيَدي على البنطال حتى سقطت حبّات رطبة من التربة. مددتُ للعرجون المعلّق. أخذتُ تمراً. التمر سكرٌ ثقيل يثبّت اللسان. التقطتُ بطاطاتٍ متناثرة على التراب. صفّفتها في كيس خشن. فتحتُ القنّ. أطلقتُ الدجاجات للتمشّي بين العشب المكسور. رفعتُ معصمي. ساعتي الخضراء. زمردية الجلد كجلد أفعى. العقارب تشقّ الظلام إلى إبر دقيقة. تشير إلى الحادية عشرة قبل منتصف الليل. بعد ساعةٍ ينام المسعورون. هذه القاعدة الوحيدة التي لم تخنّني حتى الآن. أمامِي باب الكُشك. دخلت. داخلُه كهرباءٌ قليلة من ألواحٍ شمسية صدئة على السقف. الكُشك ضيّق. رائحة التراب خانقة. عشوائي كخزانة ذاكرة مكسورة: صورة رجلٍ يجرّ حماراً في ضوء قديم. صور لعبد الكريم قاسم مثقوبة الأطراف. عبارات متناثرة بخطٍّ غاضب: الدنيا دوّارة. لوحة امرأةٍ بفستانٍ أندلسي سقطت على الأرض، كتفها المكشوف يلمع تحت غبارٍ ناعم. فتحتُ الثلاجة. هواءٌ بارد يلسع مفاصلي. علبة عصير برتقال. بارد. جلستُ خلف المكتب الخشبي المتهالك. خلفي مباشرةً تكييف قديم مغروس في الجدار. ضغطتُ زرّه. تنفّس. الهواء البارد ضرب ظهري. أقشعرّ جلدي. بردتُ من شدّة سعادةٍ بسيطة. رفعت قدمي على المكتب. شربت. لا شيء يدور في رأسي للحظة. خواءٌ نظيف كصفحةٍ تُمسَح بالماء. ثم تذكّرت. بعد قليل سيتكلّمبيعبر المِذياع. وضعت العلبة. وقفت. سحبتُ الراديو من الرفّ. قرّبتُه. رفعتُ الأريل إلى آخر سِنّه. أدرتُ القرص. وشّ. وشّ يزحف مثل مطرٍ دقيق على نافذةٍ مظلمة. ثبّتُّ القناة التي أعرفها. وشّ يتقطّع. بقايا نبرةٍ بعيدة كبذرة صوت. أطفأتُ الضوء العلوي. تركتُ لمبةً واحدة في الزاوية لتعدّ الثواني. وضعتُ المطرقة على ركبتي، ومسدّس المسامير بجانبي.
مرّت نصف ساعة. استقام ميلُ الساعة على منتصف الليل. تنفّس الراديو ثم انفتح صوته كجرحٍ على السكون. قالبي”: “صباح الليل يا بغداد. لنتكلّم عمّا فعلَه أولادُك ليلة أمس. ولن نبدأ إلا بالـملكةمارياناالتي شنّت هجوماً مسلّحاً على قريةٍ صغيرة على ضفاف دجلة. وبحسب مراسلِنا الذي ذهب ولم يعُدهي لم تُدلِ بأيّ تصريح. وبرأيي هذا تصرّف فاشي فـ—” أغلقتُ البثّ. قلتُ للظلام: “ثلاثة أيّام وأنت لا تتكلّم إلا عن ماريانا أيّها المختلّ. وليس لك مراسلون يا كذّاب.” ضربتُ الأرض بقبضتي. نفرت ذرات غبارٍ خفيفة وعلقت في الضوء الأبيض النحيل. لا شيء يقولهبيمهمّ الآن. إذا كان يثرثر بهذا الهدوء فبغداد في أمانٍ نسبيّ. وضعتُ أظافري على فمي، قستُ الوقت، ثم هززتُ رأسي. ليس الآن. لا أثق به. لا أثق بالليل عندما يتكلّم بلسانٍ واحد. خرجتُ من باب الكشك إلى الممرّ الضيّق عند أقفاص طيور الزينة. فصلتُ البطّاريات الجافّة من الشحن. وضعتُها في درّاجتي الكهربائية. اشتغلت بنبضةٍ قصيرة. الهواء كان بارداً. الأشجار تتراقص في عيني من السرعة. الشوارع فارغة. الإسفلت يلمع كزجاجٍ مبتلّ. انعطفت جنوب الحي. الحيّ صغير. منفذٌ واحد. مخرج واحد. وصلتُ إلى المركز الصحّي عند الذيل، وبجانبه ساحة كرةٍ صامتة. تسلّقتُ الباب الحديدي الضخم. لم أطرق. لم أدخل من البوّابة. يميناً على العشب، ثم فوق المكيّفات حتى السطح. فتحتُ قفص الحمام. طارت الأجنحةُ كأيدي ماء. أخذتُ المنظار المعلّق فوق القفص. أنزلتُ نظّارتي الشمسية على الأنف، ثم نظرتُ من فوقها. مدخل الحيّ في مرمى العين. الحيّ مفتوح من الجهات، لكن الارتفاع يختصر الخرائط. يميناًيساراًلا شيء. لا حركة. فقط هواءٌ يتنفّس نفسه. أنزلتُ المنظار إلى مكانه. بقيتُ أراقب الحمام يدوّر فوقي دوائرَ صغيرة كخرائط طفيفة. السماء صافية. حرّة. لا تعرف الكارثة التي تحتها. قلتُ: وأنا؟ أنااستيقظتُ فزعاً. الصباح. القلب خارج مكانه. الشمس على كتفي كحجر. “كيف نمت؟تحت يدي إسفلت السطح دافئ. ألواحُ المكيّفات تلمع في الأفق تحت شمسٍ حارقة. زحفتُ حتى لامستُ أقربَ حائط. نظرتُ بحذر. الشوارع فارغة. ارتحتُ لحظة. رفعتُ معصمي. الثانية عشرة ظهراً. أنا بعيدٌ عن البيت أربعة كيلومترات. سحبتُ المنظار. تتبّعتُ المسار الذي سأمشيه. فارغحتى منتصفه. هناك تجمّعٌ صغير. عشرات المسعورين ينهشون مكاناً بعينه. لساني سبق دماغي: “تبّاًحسن.” مددتُ يدي داخل قفص الحمام. أخرجتُ مسدساً ذا بكرة دوّارة. استدرتُ نحو الخزّان الأحمر الصغير. نزعتُ حجراً كبيراً من تحته. حذاءُ ترمبلين. ارتديته. أنزلتُ نظّارتي على عيني. بدأتُ النزول على الغرف تحت السطح. الحذاء يدفعني إلى الأمام كنبضةِ زنبرك. السرعة تُعدّل الخوف. على يميني مدخل الحيّ الوحيد، جسرٌ مرتفع وأنا أسفلُه. تسلّقتُ بصعوبة. الإسفلت يُحرق راحتي. وصلتُ. ركضت. على يساري مركزُ مجلّةٍ أدبية. اقتربتُ من المدخل. سحبتُ المسدس من خصري وأممتُ به الفراغ. خطوةٌ هادئة. ثم أخرى. مخزنٌ من مجلاّتٍ قديمة. سحبتُ قدّاحة. النار تلهث في الورق. رائحةُ حبرٍ يحترق. لم ألتقطْ نفساً ثانياً. احتكاكُ أظافر على الأرض. جاءوا. الفحيح يجرّ ظلّه. استدرتُ خلف المبنى. فتحةٌ في الحائط تقود إلى قناة السريع. مررتُ. ركضت. الحذاء يرميني قُدُماً. ستون كيلومتراً في الساعة، وربما أكثر. الهواء يُصفّر في أذنيّ. الأرض شريطٌ أسود تحت ركبتي. تحتَ مئةِ متر من موقع حسن هدّأتُ. رفعتُ المسدس. تقدّمتُ. لا مسعور. لا بقعة دم. الباب المعدني للمتجر مغلق. طرقتُ. “أنا.” انفتحَ شِقّ. رأيتُ عينه فقط. رفعتُ البكرة. صوبت. ضغطت. الطلقُ دخل أولاً. الصدى لحقه. الهواءُ ارتدّ إلى الوراء. الشِقّ انفتح لحظةً ثم انطبق. وقعَ جسدٌ خلفه بصوتٍ كهديرٍ مُكتم. الرائحةُ انتقلت من معدنٍ ساخن إلى معدنٍ أبرد. ظللتُ ثابتاً ثانيةً أطول مما يلزم. قبضتي تقضم مقبض المسدس. ابتلعْتُ طعمَ الصدأ.

 

Please Login in order to comment!